القطاع التربوي خسائره غير منظورة وترميمه أصعب

عدنان الأمين
الجمعة، ٢٢ تشرين الأول/ أكتوبر٢٠٢١

أشار بيان صدر عن رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللّبنانية إلى "تقاعس المسؤولين عن وضع الحلول الكفيلة بدعم صمود الأستاذ الجامعي"، في إشارة إلى رئاسة الجامعة ومجلسها ودعا فيه إلى "وقف كل الأعمال الأكاديميّة ابتداءً من أول تشرين الأول". وبما يشبه الردّ صدر عن رئيس الجامعة اللّبنانية بيان قال فيه إن الجامعة "ستبذل قصارى جهدها لمعالجة شتّى أنواع المشاكل التي من المُمكن أن يشهدها العام الدراسي المُقبل ليكون بالمستوى المطلوب" (٢٧ آب/أغسطس، ٢٠٢١).

 

موقف الأساتذة هذا يقع عمومًا في الإرث المعروف لديهم بالدعوة إلى الإضراب كلما كانت لديهم مطالب معيشيّة أو وظيفيّة. هذه المرّة كانوا جزءًا من اعتراض واسع شمل موظفي الجامعة، الذين تحوّلوا بحسب بيانهم "إلى مديونين يتسوّلون المال من هذا وذاك". كذلك دعت هيئة التنسيق النقابيّة إلى "يوم غضب" قائلة "لن نلتحق بالتدريس لأنّنا والأهل والتلامذة نعجز عن فتح المدارس" وفي اليوم نفسه (٨ أيلول/سبتمبر) دعت نقابة المعلّمين (في المدارس الخاصّة) إلى مقاطعة التدريس.

 

هذا على المُستوى الجماعي، أمّا على المُستوى الفردي فقد تراوح سلوك أساتذة الجامعة اللّبنانية بين المثابرة على التعليم والتغيّب والبحث عن فرص عمل خارج لبنان. البعض يُعلِّم عن بُعد من خارج لبنان. والبعض الآخر انتقل إلى التعليم خارج لبنان خاصّةً من كانت لديه جنسيّة ثانية. وارتفعت نسبة الهجرة في الكليّات والأقسام العلميّة والتطبيقيّة (هندسة وطب وصيدلة وغيرها) مقارنة بالكليّات الإنسانيّة والاجتماعيّة، كذلك لدى الفئات العمريّة الأصغر.

"ارتفعت نسبة الهجرة في الكليّات والأقسام العلميّة والتطبيقيّة (هندسة وطب وصيدلة وغيرها) مقارنة بالكليّات الإنسانيّة والاجتماعيّة، كذلك لدى الفئات العمريّة الأصغر."

الأساتذة ضحايا يتركون ضحايا


انخفضت القيمة الشرائيّة لرواتب الأساتذة أكثر من عشر مرّات خلال أشهر قليلة، وتفاقم الوضع مع فقدان مادّة البنزين اللّازمة للتنقّل إلى الجامعة ومنها وغياب الأدوية من الصيدليّات وغيرها من أوجه الأزمة الاقتصاديّة التي اجتاحت البلاد، وهي أمور تجعل التعليم الحضوري مُكلِفًا. حتى التعليم عن بُعد أصبح مرتبكًا بسبب الأعطال التي تصيب الانترنت وانقطاع الكهرباء وكلفتها.


ويعتبر الأساتذة المُتعاقدون في الجامعة اللّبنانية أكبر ضحايا الأزمة. فهؤلاء يتقاضون أجرًا زهيدًا (ما بين  ٤٫٥ و١٠ دولارات في الساعة، على أساس الدولار يساوي ١٥٠٠ ليرة) فضلًا عن أنّهم لا يتقاضون أتعابهم إلّا كل ثلاثة أشهر أو سنة وذلك على سبيل "المصالحة". ويمكن للمرء أن يتخيّل شعور الأستاذ المُتعاقد، مُعيل الأسرة، الذي لا يقبض دخلًا منتظمًا وعندما يقبضه تكون ق
يمته الشرائيّة متدنية جدًا. وتشكّل فئة المتعاقدين بالساعة الغالبيّة العظمى من أساتذة الجامعة اللّبنانية.


لم نسمع عن إضرابات في الجامعات الخاصّة. أمّا السلوك الفردي فينحصر ما بين المثابرة والهجرة. وتتراوح نسبة الهجرة بين ١٠٪  و٣٠٪  حسب الجامعة والاختصاص، ووصلت في بعض الحالات إلى ٨٠٪، حيث اقتنصت بعض الجامعات الخليجيّة الفرصة وغذّت أقسامها من أساتذة من لبنان. لكن إذا سألت الذين لم يهاجروا فسوف تجد أن ٥٠٪ منهم مستعد للهجرة اليوم قبل الغد.

"حتى التعليم عن بُعد أصبح مرتبكًا بسبب الأعطال التي تصيب الانترنت وانقطاع الكهرباء وكلفتها."

إدارة الأزمة


إذا كان سلوك الأساتذة تحت وطأة الأزمة يختلف باختلاف العمر والاختصاص والوضع الوظيفي (متفرّغ أومتعاقد) فهو يختلف أيضًا باختلاف الجامعة، ونمط الحوكمة فيها. وهذه تشمل قدرتها على "إدارة الأزمة" والحدّ من الخسائر. بعض الجامعات تمكّنت من توفير موارد ماليّة إضافيّة سمحت لها بزيادة الرواتب أو دفع قسم من الرواتب بالدولار "الطازج" بنسب تراوحت بين ١٠٪  و٢٥٪. هذا المسعى في لجم الهجرة (وليس منعها) يقتصر على عدد من الجامعات الخاصّة، التي تمكّنت من الحصول على مساعدات خارجيّة ومن المتخرّجين أو أنّها رفعت الأقساط. أما الجامعة اللّبنانية فزيادة الرواتب أو أي تدبير مالي آخر فيها، بما في ذلك قبول المساعدات، يحتاج إلى قرار أو موافقة الحكومة. 


وتشمل الحوكمة إدارة الجامعة للموارد البشريّة والماليّة واستخدام التكنولوجيا في الإدارة. فالانتقال من النظام الحضوري إلى نظام التعليم عن بُعد كشف الفرق بين الجامعات لجهة جهوزيتها ربطًا بمدى انتشار ثقافة التكنولوجيا في الإدارة والتعليم فيها. في الجامعات التي اعتادت على التواصل الشفهي والورقي زادت وطأة الأزمة الاقتصاديّة على مسار العمل فيها. وتعرقلت المراسلات والمسابقات والإفادات، وطباعة "المقررات" و"الملخصات" التي يوفّرها الأساتذة للطلاب، أو أصبحت كلفتها عالية. وكلّها أمور تنعكس على عمل الطلّاب. 

"في التعليم الحضوري سوف يكون من الصعب تحمّل كلفة التنقّل بين المنزل والجامعة، وفي التعليم عن بُعد سوف يكون من الصعب المتابعة عبر الإنترنت. ثمّ أن الأوضاع الاجتماعيّة المتدنية تعسّر دفع الأقساط الجامعيّة."

الخسائر


تنعكس الأوضاع الاقتصاديّة على الطلّاب ومسارهم الدراسي. في التعليم الحضوري سوف يكون من الصعب تحمّل كلفة التنقّل بين المنزل والجامعة، وفي التعليم عن بُعد سوف يكون من الصعب المتابعة عبر الإنترنت. ثمّ أن الأوضاع الاجتماعيّة المتدنية تعسّر دفع الأقساط الجامعيّة. وقد لوحظت نزعة نزوح طلابي من الجامعات الأغلى نحو الجامعات الأرخص. ما أحدث نقصًا في معدّلات التسجيل في الجامعات الأغلى الأمر الذي اضطرها إلى تخفيض معدّلات القبول وتشجيع المرشحين من خلال حزم مساعدات إضافيّة. هذه الأوضاع تعود فترتد على الأداء الجامعي. 


ومن نافل القول إن هناك تطابقًا نسبيًا بين نمط حوكمة الجامعة والوسط الاجتماعي للطلاب، وبالتالي فإن الفروق بين الجامعات تشمل الأمرين معًا، ولو تمكّنت بعض الجامعات وبعض فئات الطلبة في بعض الاختصاصات وبعض فئات الأساتذة من كسر التطابق الآلي بين الأمرين. 


لكن مهما تفاوتت أثار الأزمة بين الجامعات تبقى الخسائر في الرأسمالَين الأكاديمي والاجتماعي مرتفعة لدى الأجيال التي هي اليوم على مقاعد الدراسة. وهذه الخسائر كبيرة جدًا من جهة وعصيّة على التقدير الدقيق في حجمها من جهة ثانية. وسوف تزيد مع استمرار الأزمة. وإذا كانت ميزة لبنان التفاضليّة في المنطقة العربيّة هي هذا الرأسمال الإنساني الذي يتكون فيه من خلال التعليم، فإن هذه الميزة بدأت بالزوال، في نوع من الانهيار التربوي المصاحب للانهيار الاقتصادي. ومثل هذا التوقّع مرجّح مع ارتسام ملامح جديدة للنظام اللبناني في المستقبل القريب حيث تغلب على السلطة أحزاب ذات قِيم ونزعات تراهن على رأسمال سياسي يقوم على الانخراط المُبكر للشباب في الأعمال السياسيّة والعسكريّة والدينيّة، وعلى تفريغ لبنان من الشباب المتعلّم، خاصّةً أن هؤلاء عبّروا عن مقتهم للطبقة السياسيّة في انتفاضة ١٧ تشرين.  


وهذا هو سياق هجرة الشباب والطلّاب والخرّيجين. تتركّز الهجرة من لبنان اليوم على خرّيجي الجامعات، نحو الولايات المتحدة الأميركيّة وكندا وأوروبا ودول الخليج العربي. تشهد على ذلك طوابيرهم على أبواب الأمن العام للحصول على جوازات سفر وعلى أبواب السفارات للحصول على فيزا. وقد صرّح رئيس إحدى الجامعات الخاصّة أنّ ٧٠٠ طالب هاجروا السنة الماضية من كافّة السنوات الدراسيّة لمتابعة الدراسة في الخارج. 


ما أقوله عن خسائر التعليم العالي ينطبق على التعليم العامّ، إنّ بالنسبة للأضرار التي لحقت بالمعلمين الذي قالوا في يوم الغضب (٨/٩/٢٠٢١) "لن نلتحق بالتدريس لأنّنا والأهل والتلامذة نعجز عن فتح المدارس" (الصحف)، أو بالنسبة لحوكمة المدارس والفرق فيها بين أنواع المدارس (خاص-خاص ورسمي-خاص) أو بالنسبة للأوساط الاجتماعيّة التي ينتمي إليها الطلاب، ومفاعيل هذا الانتماء على دفع الأقساط، واستخدام الإنترنت توفير الإنترنت وكلفة الأقساط والكتاب المدرسي والقرطاسية والتنفل. 


وفي الحالتين، التعليم العام والتعليم العالي، كانت الحوكمة الحكومية (وزارة التربية والتعليم العالي) شديدة الارتباك، عالقة بين عوامل خارجة عن نطاقها (الموارد الماليّة والصحّة والإنترنت) وبين الخضوع أولًا للمتطلّبات السياسيّة الآنية للأحزاب الحاكمة. بحيث بدت شبكة المصالح أقوى بكثير من الالتفات إلى الشأن العام.

"يصعب التفكير في السياسات مع حكومة يختلف الظاهر في كلامها عن الباطن. فلقد تضمّن البيان الوزاري للحكومة الجديدة جُملًا عن القطاع التربوي قيلت هي نفسها منذ عقود، وكأنّنا لسنا في أزمة لا مثيل لها."

السياسات

 

قرأت أن ١٣٠ مدرسة خاصّة أقفلت، لكن ليس على حدّ علمي أن جامعات أقفلت، وطبعًا لا تقفل مدرسة رسميّة حتى لو كان عدد طلّابها يساوي عدد أساتذتها، إلّا بقرار سياسي. وأقرب تفسير هو أنّ الكثير من المؤسّسات التربويّة التي ما زالت تعمل تتصرّف على طريقة المصارف: "تزبيط" الأوضاع، طبقًا للمتاح، على حساب الزبون (الطلبة هنا). أمّا الحكومة، فهي تدير الأزمة التربويّة على قاعدتين: حريّة التعليم الخاصّ (أي ضغوط الجماعات)، وجعل المدارس الرسميّة والجامعة اللّبنانية مناطق نفوذ في خدمة السياسيين، حيث الطلبة هم ذريعة وجودها وليسوا الهدف من وجودها.  

 

يصعب التفكير في السياسات مع حكومة يختلف الظاهر في كلامها عن الباطن. فلقد تضمّن البيان الوزاري للحكومة الجديدة جُملًا عن القطاع التربوي قيلت هي نفسها منذ عقود، وكأنّنا لسنا في أزمة لا مثيل لها. حتى البيانات الصادرة عن رابطات ونقابات المعلمين يجب قراءتها باعتبار أن القيادات التي أصدرتها هي تابعة للأحزاب السياسيّة الحاكمة، وكأنّها ترفع قميص عثمان.

 

الملف التربوي ملف في غاية الصعوبة. نظريًا، الجانب المالي فيه هو الأسهل. يتضمّن هذا الجانب حوافز ماليّة للمؤسّسات التربويّة الرسميّة والخاصّة، وزيادة رواتب الهيئة التعليميّة. وهو "سهل" إذا توفّرت الموارد.

 

الجانب الأصعب يتعلّق بالحوكمة. الحوكمة الخارجيّة، أي دور الوزارة المزدوج في رعاية ودعم التعليم بقطاعيه وفي إدارة التعليم الرسمي. والحوكمة الداخليّة، أي كيفيّة إدارة شؤون المدارس الرسميّة والجامعة اللّبنانية.

 

الملف التربوي تفاقمت مشاكله. لذلك كان الثمن غاليًا والخسائر التربوية فادحة على المستوى الوطني، وصار التفاوت الاجتماعي على أشدّه، وأصبح الفساد في المُجتمع واقعة صارخة كما أظهرت أزمة المحروقات.

عدنان الأمين، مُستشار في شؤون العلوم التربويّة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت.

بينما يواجه لبنان سيناريو الانهيار الكامل بسبب أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة، أطلق معهد عصام فارس سلسلة مقالات رأي  تتناول الانعكاسات الجذريّة للأزمة على قطاعات الدولة وظروف معيشة الناس. ستغطي السلسلة عدّة جوانب للأزمة، تتعلّق بالتعليم والطاقة والاقتصاد والصحّة العامّة والقطاع الخاص، بالإضافة إلى حماية حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وغيرها.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.

Facebook
Twitter
YouTube
Website
Email
Soundcloud
RSS

AUB - P.O. Box: 11-0236, Riad El Solh, Beirut, Lebanon


Unsubscribe from all mailings Unsubscribe | Forward Email